قمة القاهرة- رفض عربي لخطة ترامب بشأن غزة وخارطة طريق بديلة

في الرابع من هذا الشهر، التأمت القمة العربية في رحاب القاهرة استجابةً للمقترح المثير للجدل الذي تقدم به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي يهدف إلى إجبار الفلسطينيين على ترك ديارهم في قطاع غزة والانتقال قسراً.
وقد أسفرت القمة، التي انعقدت بدعوة من حلفاء الولايات المتحدة العرب في المنطقة، عن إصدار رفض قاطع لرؤية ترامب الرامية إلى الاستيلاء على غزة وتحويلها إلى ما يسمى بـ "ريفييرا الشرق الأوسط".
تجسدت رؤية ترامب بعقلية استعلائية واضحة، إذ تسعى إلى إفراغ قطاع غزة من جميع سكانه، وهو الهدف الذي عجزت عن تحقيقه الحرب الإسرائيلية الشرسة التي استمرت خمسة عشر شهرًا، على الرغم من آلتها الحربية التدميرية وقوتها النارية الهائلة.
وعلاوة على ذلك، فإن هذه الخطط العنصرية تظل بعيدة المنال وغير قابلة للتحقيق دون تعاون الدول العربية المجاورة، التي ترى في عملية الطرد الجماعي للفلسطينيين تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي واستقرارها الإقليمي.
وباختصار، بعد مرور أقل من شهر على ولايته الثانية، أثارت تصريحات ترامب الصادمة بشأن غزة موجة من الاستنكار والاستياء، وشكلت تصعيدًا خطيرًا يمكن تفسيره بطرق شتى.
أحد هذه التفسيرات المحتملة هو أن ترامب جاد في موقفه هذا، حيث يعتقد أن الفلسطينيين قد هُزموا أمام الكيان الصهيوني، وأن الدول العربية تمر الآن بحالة من الوهن والتفكك والتبعية لا تمكنها من التصدي لهذا الاستخفاف الصارخ بحقوقها وسيادتها وإرادتها.
كما يمكن قراءة هذه التصريحات على أنها محاولة مكشوفة من ترامب لمكافأة بعض كبار المتبرعين لحملته الانتخابية الرئاسية. فعلى الرغم من أن لدى ترامب جدول أعمال حافل وطموح على الصعيدين الداخلي والدولي، وهو ما قد لا يجعله راغبًا في وراثة حرب استنزافية ذات قيمة إستراتيجية محدودة، فإنه خلال حملته الرئاسية تلقى دعمًا ماليًا سخيًا من قبل العديد من الشخصيات البارزة المعروفة بدعمها القوي لإسرائيل، بمن في ذلك رجل الأعمال الملياردير بيل آكمان وسيدة الأعمال ميريام أديلسون، مالكة كازينوهات القمار، التي قدمت لترامب تبرعًا ضخمًا قدره 100 مليون دولار في حملته الأخيرة مقابل دعمه المطلق للسياسات الإسرائيلية الأكثر تطرفًا، تمامًا كما حدث في عام 2017 عندما اعترف ترامب بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأميركية إليها بعد تبرعها وزوجها في عام 2016 بأكثر من أربعين مليون دولار.
ومع ذلك، لا يزال العديد من المراقبين مترددين بشأن أخذ هذا الاقتراح على محمل الجد، وذلك لأن التصريحات الصادمة والمتكررة التي أدلى بها ترامب منذ فوزه بالانتخابات قد تكررت مرارًا وتكرارًا، وهي في مجملها تمثل انتهاكًا صارخًا للقوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية المرعية.
فعلى سبيل المثال، طالب ترامب الدنمارك بتسليم جزيرة غرينلاند للولايات المتحدة، ودعا كندا إلى أن تصبح الولاية الأمريكية الحادية والخمسين، كما أنه سعى للضغط على بنما للتخلي عن ملكيتها لقناة بنما في منطقة أميركا الوسطى.
إن هذه الخطابات التي تتنافى مع الأعراف والتقاليد الراسخة بين الدول في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية تعتبر غير لائقة بمسؤول رفيع المستوى، فما بالك برئيس دولة، ناهيك عن كونه الرئيس المنتخب لأكبر قوة عظمى في العالم. ومع ذلك، لم يكتف ترامب بالإدلاء بهذا التصريح غير المسؤول بشأن حقوق الفلسطينيين في غزة قبل أسابيع، بل أكد عليه مرارًا وتكرارًا في مناسبات مختلفة.
بالإضافة إلى ذلك، يرى بعض المحللين أن إعلان ترامب، الذي جاء خلال زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، قد يكون محاولة لإفشال جهود رئيس وزراء الكيان الصهيوني، الذي يواجه اتهامات في المحكمة الجنائية الدولية لارتكابه جرائم حرب، للحصول على الضوء الأخضر لاستئناف حرب الإبادة في غزة.
في الواقع، فاجأت مواقف ترامب الكثيرين داخل الإدارة الأميركية، حيث لم تتم مناقشتها أو التداول بشأنها قبل الإعلان عنها. وفي هذا السياق، يُعتقد أن ترامب رأى أن الهدف من استئناف الحرب هو إزاحة حركة حماس من السلطة في غزة، لذا فإن اقتراحه لم يقتصر فقط على طرد حماس، بل تعداه ليشمل طرد جميع الفلسطينيين من القطاع، وبالتالي قطع الطريق على نتنياهو لتبرير العودة إلى الحرب.
فطوال حملته الرئاسية، كان ترامب يحث نتنياهو على "الانتهاء من المهمة" في غزة. ومع ذلك، فشل الكيان الصهيوني في تحقيق هذا الهدف وفقًا لأجندته التي أعلنها، على الرغم من حرب الإبادة الوحشية التي شنها ضد المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني الأعزل والتي استمرت لما يقرب من خمسمائة يوم.
وهناك أيضًا قراءة أخرى تتمحور حول إستراتيجية ترامب التفاوضية المعروفة. فترامب، الذي يمتلك خبرة واسعة في صفقات العقارات الكبرى، يتبع إستراتيجية فريدة من نوعها، وقد شرحها بالتفصيل في كتابه الشهير "فن الصفقات".
يؤكد ترامب في كتابه أن المفاوض الناجح يجب أن يبدأ بعرض أكثر المواقف تشددًا وتطرفًا من أجل إثارة الطرف الآخر، مما يدفعه إلى تقديم سلسلة من التنازلات الكبيرة والاقتراب من موقفه حتى قبل أن تبدأ المفاوضات الرسمية.
وفي هذه الحالة، يسعى ترامب إلى تحقيق ما عجز الكيان الصهيوني عن تحقيقه عسكريًا على مدار أكثر من عام من الحرب الدموية المدمرة.
لقد كان لحرب الكيان الصهيوني أهداف ثلاثة رئيسة:
- إطلاق سراح الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس والفصائل الأخرى دون الحاجة إلى إطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين.
- القضاء على حماس والفصائل المقاومة الأخرى ككيانات عسكرية فاعلة.
- إزاحة حماس من السلطة في قطاع غزة.
وبما أن الكيان الصهيوني لم يتمكن من تحقيق أي من هذه الأهداف على أرض الواقع، بل تمكنت المقاومة من استنزافه لشهور طويلة، مما كلفه خسائر فادحة في الأرواح والعتاد في أعنف حرب استنزاف يخوضها منذ نشأته، فقد اضطر في نهاية المطاف إلى القبول بخطة تتضمن تحقيق جميع أهداف حماس والمقاومة الفلسطينية.
الاتفاقية التي وقعها الطرفان كانت مطروحة على الطاولة منذ شهر مايو/أيار على الأقل، حيث وافقت عليها حماس، ولكنها قوبلت بالرفض المتكرر من قبل الجانب الإسرائيلي، إلى أن اضطر إلى التوقيع عليها في شهر يناير/كانون الثاني تحت ضغط من إدارة ترامب قبل انتهاء ولايته.
نصَّت الاتفاقية على تنفيذ عملية من ثلاث مراحل، تمتد كل مرحلة منها لمدة 42 يومًا، وتنتهي بإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين، سواء كانوا أحياء أو أمواتًا، مقابل إطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين، بمن فيهم حوالي 600 فلسطيني محكوم عليهم بالسجن المؤبد.
علاوة على ذلك، دعت الاتفاقية، التي دخلت حيز التنفيذ في 19 يناير/كانون الثاني، إلى وقف إطلاق النار بشكل دائم بعد انتهاء المرحلة الثانية، والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة، وتقديم مساعدات إنسانية ضخمة، بما في ذلك توفير الغذاء والماء والوقود والخيام والإمدادات الطبية. كما تضمنت خطة طموحة لإعادة إعمار غزة خلال فترة زمنية مدتها خمس سنوات.
في الوقت ذاته، كان نتنياهو يتعرض لضغوط هائلة من إدارة ترامب، التي تسعى جاهدة على الأقل إلى تحقيق وقف مؤقت لإطلاق النار بهدف استعادة الرهائن، وكذلك من قبل شركائه اليمينيين المتطرفين الذين يطالبونه بمواصلة الحرب حتى تحقيق النصر الكامل. إيتمار بن غفير، الذي شغل منصب وزير الأمن القومي في إسرائيل، كان قد قدم استقالته من الحكومة، مما قلص الأغلبية التي يتمتع بها نتنياهو في الكنيست، بينما هدد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بالانسحاب من الائتلاف الحكومي إذا مضت إسرائيل قدمًا في تنفيذ المرحلة الثانية من خطة وقف إطلاق النار، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى سقوط حكومة نتنياهو.
في ظل هذه الظروف المعقدة والمتشابكة، سعى ترامب إلى الإبقاء على حكومة نتنياهو في السلطة، بينما وجه إنذارًا شديد اللهجة إلى الأنظمة العربية الحليفة للولايات المتحدة، وعلى رأسها الأردن ومصر، داعيًا إياهم إلى قبول التهجير القسري لسكان قطاع غزة الفلسطينيين. ولكنه أشار في الوقت نفسه إلى أنه إذا رفضوا خطته هذه، فعليهم أن يقترحوا خطة بديلة تتماشى مع أهدافه الحقيقية، وهي نزع سلاح حركة حماس وإزاحة حكمها من قطاع غزة. ومثل هذا الاقتراح قد يهدد بتقويض استقرار هذه الدول والنظام الإقليمي بأكمله.
فمصر، على سبيل المثال، لديها اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني تتضمن شروطًا محددة ومعقدة حول الوضع في قطاع غزة. قد يساهم نقل مليون فلسطيني من غزة إلى سيناء في تخفيف الالتزامات المترتبة على الكيان الصهيوني باعتباره قوة احتلال، ولكنه سيخلق تحديات أمنية واجتماعية خطيرة بالنسبة للنظام المصري.
كما أن المؤسسة العسكرية المصرية، التي تعتبر الركيزة الأساسية في البلاد، غير مستعدة تمامًا للتعامل مع هذه الأزمة، حيث من المتوقع أن يقاوم الفلسطينيون عملية التهجير القسري بكل قوة، مما سيؤدي إلى نشوء حالة من التوتر الدائم وعدم الاستقرار.
وبالمثل، يدرك الأردن تمام الإدراك أن قبوله بتهجير فلسطينيي غزة سيشكل سابقة خطيرة، ويجعل نقل غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى الأردن مسألة وقت قد يفرضها الكيان الصهيوني وقتما يشاء.
ولذا فإن مقترح ترامب يشكل تهديدًا وجوديًا للنظام الأردني، ويعرض توازنه السكاني الدقيق للخطر الشديد. ولهذا السبب يعارض الأردن بشدة هذا المقترح، لأنه يهدد بقاءه وسيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المملكة الهاشمية.
ولمواجهة اقتراح ترامب الخطير، عقد حلفاء الولايات المتحدة العرب اجتماعًا طارئًا في الرياض في أواخر شهر فبراير/شباط، حيث اتفقوا على وضع خطة تفصيلية لمستقبل قطاع غزة.
وقد تبع هذا الاجتماع غير الرسمي انعقاد جلسة رسمية لجامعة الدول العربية في القاهرة في الرابع من شهر مارس/آذار، حيث صدر بيان رسمي يرفض بشكل قاطع مقترح ترامب المتعلق بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة. وبدلاً من ذلك، قدمت القمة خارطة طريق متكاملة لإعادة تأهيل غزة وإعادة إعمارها.
وقد دعا البيان الختامي للقمة إلى التنفيذ الفوري للمرحلتين؛ الثانية والثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار، بما في ذلك الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة، واستئناف تقديم المساعدات الإنسانية على نطاق واسع لسكان القطاع الذين يعانون الأمرين. كما طالب البيان برفع الحصار المفروض على غزة، وأكد على الحاجة الملحة إلى إيجاد حل سياسي شامل يرتكز على مبدأ حل الدولتين.
وفيما يتعلق بمطلب الكيان الصهيوني والولايات المتحدة بإزاحة حكم حماس من السلطة في قطاع غزة، فقد تبنت الخطة العربية الاقتراح المصري بإنشاء لجنة من الخبراء تتولى إدارة غزة لمدة ستة أشهر تحت رعاية السلطة الفلسطينية، علمًا بأن المصريين قد توصلوا قبل عدة أسابيع إلى اتفاق مع العديد من الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حماس وفتح.
وبما أن حكومة نتنياهو ترفض عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، فقد اقترحت الخطة المصرية فترة انتقالية من التأهيل والإصلاحات التي ستتبناها السلطة الفلسطينية، بما في ذلك تدريب قواتها من قبل مصر والأردن، وبعد ذلك ستتولى السلطة الفلسطينية مسؤولية الحفاظ على الأمن في غزة.
أما بالنسبة لمسألة نزع سلاح حركة حماس، وهي الفكرة التي ترفضها حماس وحركة الجهاد الإسلامي وبقية الفصائل الفلسطينية الأخرى بشكل قاطع، فقد تمت معالجتها بشكل غامض في البيان الختامي للقمة.
واقترحت الوثيقة وضع جميع الأسلحة، بما في ذلك سلاح المقاومة، تحت سلطة واحدة، أي السلطة الفلسطينية، مما يؤدي فعليًا إلى إنهاء المقاومة الفلسطينية، خصوصًا وأن منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية كانتا قد أعلنتا تخليهما عن الكفاح المسلح بموجب اتفاقيات أوسلو الموقعة في عام 1993.
كما دعا البيان إلى استصدار قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يقضي بتفويض قوة حفظ سلام دولية في قطاع غزة، وهو الاقتراح الذي رفضته حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى رفضًا قاطعًا، حيث صرح المتحدثون الرسميون باسم حماس والجهاد الإسلامي بأن أي قوات أجنبية تتواجد في غزة ستُعتبر بمثابة قوة احتلال، وسيتم التعامل معها على هذا الأساس.
ومع ذلك، يرى العديد من المحللين أن أحد الجوانب اللافتة للنظر في اقتراح جامعة الدول العربية يتمثل في نشر خطة إعادة إعمار غزة التي تتألف من واحد وتسعين صفحة.
لقد قدمت الوثيقة مستوى ملحوظًا من التفصيل حول كيفية إعادة بناء غزة وإعادة تأهيلها، مع تحديد خطة عمل من ثلاث مراحل تمتد على مدار خمس سنوات، حيث ستركز المرحلة الأولى، التي ستستمر لمدة ستة أشهر، على توفير السكن للفلسطينيين النازحين في مساكن مؤقتة مثل الخيام والكرفانات في سبع مناطق محددة.
أما المرحلتان الثانية والثالثة، اللتان ستمتدان لمدة ثلاث سنوات وسنتين ونصف السنة على التوالي، فستركزان على تطوير البنية التحتية بشكل كامل، بما في ذلك بناء المدارس والجامعات والمستشفيات والطرق ومحطات توليد الكهرباء ومنشآت تحلية المياه والإسكان بمختلف كثافاته في جميع أنحاء القطاع.
كما شملت الخطة بناء الأسواق والمباني الحكومية والحدائق والمتنزهات والفنادق والمواقع السياحية والمناطق الصناعية والزراعية.
لقد كان هذا المستوى من الخرائط التفصيلية بمثابة دحض مباشر لادعاء ترامب بأن التهجير القسري ضروري لإعادة إعمار قطاع غزة. وقد قدرت خطة إعادة الإعمار التكلفة الإجمالية للمشروع بنحو 53 مليار دولار أمريكي، مع تخصيص 3 مليارات دولار للمرحلة الأولى، و30 مليارًا للمرحلة الثانية، و20 مليارًا للمرحلة الثالثة. كما دعت الوثيقة إلى عقد مؤتمر دولي للمانحين في القاهرة في أقرب وقت ممكن.
في لعبة الورق، يسعى اللاعبون جاهدين لإخفاء أوراقهم على أمل التفوق على خصومهم وتحقيق الفوز في اللعبة. ولكن في هذه اللعبة الجيوسياسية المعقدة، فقد رأى اللاعبون مصلحة واضحة في أن يضعوا أوراقهم مكشوفة على الطاولة أمام الجميع.
يسعى الإسرائيليون وحلفاؤهم الأمريكيون إلى طرد الفلسطينيين من ديارهم في قطاع غزة، وهو هدف بعيد المنال فشلوا في تحقيقه على الرغم من مرور ما يقرب من عام ونصف على حرب الإبادة الشاملة التي شنها الكيان الصهيوني. فكيف يعتزم ترامب تحقيق هذا الهدف في حين أنه استبعد بشكل قاطع استخدام القوة العسكرية؟
من ناحية أخرى، تتجنب الدول العربية الدخول في مواجهة مباشرة مع ترامب، على الرغم من تجاهلها العلني لتهديداته الضمنية، إذ ترى أن مطالبه تشكل تهديدًا وجوديًا لبقائها واستقرارها. ولكنها تأمل في استمالة ترامب واستثارة اهتمامه من خلال إبرام صفقات أسلحة مربحة أو ضخ استثمارات تجارية ضخمة وتقديم مبادرات سياسية، على غرار اتفاقيات أبراهام التي تم توقيعها في عام 2020.
وقد أشار البيان الختامي للقمة العربية إلى إمكانية الاعتراف بالكيان الصهيوني وتطبيع العلاقات معه، شريطة وجود خارطة طريق واضحة وقابلة للتطبيق، وليس بالضرورة تنفيذًا فوريًا، نحو التوصل إلى تسوية سياسية عادلة وشاملة تقوم على فكرة حل الدولتين.
وعلى النقيض من ذلك، ترى التركيبة الحالية للكيان الصهيوني، من خلال تحالفها الوثيق مع إدارة ترامب، التي تعتبر الأكثر صهيونية وتدينًا (أي مسيحانية توراتية) في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أنها قادرة على تحقيق أهدافها السياسية القصوى.
وتشمل هذه الأهداف القضاء التام على حركات المقاومة في المنطقة العربية، وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين بهدف حل المشكلة الديمغرافية، وتكوين أغلبية يهودية ساحقة في فلسطين التاريخية حتى يتمكنوا من الادعاء بأنها "دولة ديمقراطية" مع الاحتفاظ بكامل الأرض من النهر إلى البحر.
كما يسعى هذا التحالف الإسرائيلي-الأمريكي إلى تفكيك وتقويض البرنامج النووي الإيراني، وفرض اتفاقيات تطبيع على دول عربية وإسلامية كبرى، واستعادة قوة الردع الإسرائيلية المفقودة بهدف تعزيز هيمنته الإقليمية. هذه بالطبع قائمة طويلة ومذهلة من الأهداف الطموحة التي يصعب تحقيقها على أرض الواقع.
ولذلك، إذا أصر نتنياهو وحلفاؤه في اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة على تحقيق هذه الأهداف الطموحة، فإنهم بحاجة ماسة إلى إقناع ترامب بضرورة إعطاء الأولوية القصوى لتحقيق أهدافهم، وهو الأمر الذي سيعيقه بالضرورة عن العمل على تحقيق أولوياته الأخرى خلال ولايته الثانية والأخيرة، حيث إنه يمتلك برنامجًا ضخمًا ومعقدًا يسعى من خلاله إلى تفكيك ما يعتبره "الدولة العميقة" الأمريكية وإعادة بسط نفوذها العالمي تحت برنامجه الطموح "أمريكا أولاً".
باختصار، إن تهديدات ترامب وتصريحاته النارية وخطابه الشعبوي لن تجبر الآخرين على الاستسلام لرغباته وطلباته المتزايدة.
وإذا لجأ إلى استخدام القوة العسكرية الغاشمة في قطاع غزة لتحقيق أهدافه العدوانية، فإنه سيواجه مقاومة شرسة وعنيفة، ليس فقط من قبل المعارضين التقليديين للسياسة الأميركية في المنطقة، ولكن أيضًا من قبل الأنظمة العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة، والتي ترى أن تصريحاته تمثل تهديدًا خطيرًا لاستقرارها وأمنها القومي.
إن مثل هذه العلاقات المتشابكة والأهداف المتناقضة ستؤدي حتمًا، في نهاية المطاف، إلى إحباط طموحات ترامب الجارفة، سواء في محاولته إعادة صياغة المجتمع الأميركي وفقًا لأجندته الداخلية المتطرفة، أو إعادة تشكيل النظام الدولي تحت برنامجه "أمريكا أولاً".
وكما أخبرنا في كتابه الشهير "فن الصفقة"، فإن ترامب لا يكره شيئًا أكثر من مرارة الفشل وطعم الهزيمة.